على الرغم من أن الدراما التليفزيونية والسينمائية أظهرت المرأة الصعيدية في صورة المقهورة والمظلومة التي تحرم من طفولتها ومن حقها في التعليم ومن ميراثها الشرعي .. وغيرها من الصور السلبية التي ترسخت في الأذهان عن نساء الصعيد ، إلا إن الواقع يختلف كثيرا ، فالمرأة ربما تكون مقهورة ومحملة بالكثير من الهموم والأعباء ، ولكن هذا الأمر ينطبق - أيضا - على الرجل الصعيدي ، فالطبيعة القاسية في جنوب مصر من فقر وبطالة وجهل ونقص في الخدمات لا تفرق بين رجل وامرأة ، فالكل تحرق بشمس الصعيد اللاهبة وعاني من تقاليده الجامدة الصارمة ، ولا يملك أحد التملص من تلك التقاليد إلا اتهم بالجبن والعقوق .

ومن المفارقة أن المرأة الصعيدية تلعب دور الحارس على تلك التقاليد ، وعلى رأسها بالطبع الثأر ، فالمرأة تكاد توهب حياتها بالكامل للثأر لأب أو زوج أو أخ أو ابن قتل غدرا ، وتتصدي لأي محاولة من أفراد أسرتها للتهرب من " الدم " ، وشهد الصعيد عشرات النسوة اللاتي بتن يدعين الله ليل نهار أن يحفظ لهن الابن والأخ ، لا لشيء إلا ليأخذ ثأر عائلته ، فالمرأة الصعيدية ترضع ابنها وتربي شقيقها على أن الثأر مرادفا للرجولة ، وانه قدر محتوم لا مفر منه ، وفي أحد حوادث الثأر استدرج شقيقان قاتل أخيهما لتناول العشاء ثم ذبحوه وقدموا رأسه هدية لأمهم.

ولا تتردد المرأة الصعيدية في تهديد ذويها بأنها سوف تأخذ ثأر العائلة بنفسها إذا ما لاحظت تباطأ من جانب الرجال ، وكثيرا ما تقدم على "حلق شعرها" بالكامل ، وناهيك عن تريدها الدائم لتلك المواويل البكائية الممزوجة بالدم المعروفة بالعويل أو المندبة، فهي تستحث الأعمام على أخذ ثأر أخيهم على لسان ابنه الرضيع "وصيت يا بايا علينا مين‏..‏ قلب قاسي ولا قلب حنين" ، ثم ننتقل إلى الأخوال "يا خال ربيني ووديني حداك.. لابد أبويا يوم الرحيل وصاك".

وإذا لاحظت المرأة الصعيدية تباطؤً من جانب الأقارب فإنها تتوجه إلى طفلها الصغير باعتباره الأمل الأخير "يا بويا هات لي توب مايدوبشي‏ .. ‏ ده العم ولا الخال ما يدومشي"، فتغرس في نفس الطفل عشق القتل بهدف الثأر وإن كانت تعلم أن ثمن هذا سيكون ضياع فلذة كبدها نفسه الذي حتما سينتهي مصيره إما بالقتل أيضا أو بالإعدام أو حتى بالأشغال الشاقة على أقل تقدير وفي جميع هذه الأحوال فإنها لن تراه ثانية لكنها رغم هذا لا تتخلى عن عقيدة الثأر أبدا.

والمرأة الصعيدية لا تقف عند حد التحريض فقط ، بل إنها في بعض الأحيان تحمل السلاح ، وهو ما حدث بالفعل في إحدى قرى محافظة قنا ، فبعدما التهم الثأر من الرجال من التهم ، وابتلع السجن الباقين ، تدربت المرأة على استخدام السلاح وحملت البنادق الآلية ، وأخذت على عاتقها رعاية الأرض والأطفال .

وقد شهدت قنا أشهر حوادث الثأر التي نفذتها امرأة ، حيث أقسمت امرأة اسمها "ليلى" على الثأر لإخوتها الثلاثة الذين قتلوا غدرا ، خاصة أن أبناءها وأبناء إخوتها مازالوا أطفالا ، وأصرت على أنها ستأخذه مضاعفا ، وحلقت شعرها ، وارتدت ملابس الرجال ، وحملت مدفعا رشاشا ، وانتقلت للإقامة في الكهوف ووسط زراعات القصب ، وظلت تراقب أعداءها سنوات طويلة حتى حانت اللحظة الحاسمة ، وعلمت أن قاتلي إخوتها يستقلون سيارة ميكروباص لتأدية واجب العزاء بإحدى القرى ، فانتظرتهم عند مدخل القرية، وأوقفت السيارة وطلبت من السائق النزول لأنه ليس من نفس العائلة ، وحصدت 12 شخصا من خصومها.‏

ولعل القاسم المشترك الذي يجمع كافة حوادث الثأر هو الدموية والتشدد والتباس مفاهيم الشرف بالدم ، وعدم تغليب مبادئ العفو والتسامح بين البشر ، ويكاد يقع أغلب من تنزلق قدماه لهوة الثأر أسيرا لعادات اجتماعية ومفاهيم بالية تدفعه دفعا لسفك الدم ، فيروي أحد المكروبين بالثأر أنه حين يذهب لشراء علبة سجائر ويعطي التاجر عشرين جنيها مثلا ( أقل من 4 دولارات ) وينتظر باقي نقوده فإن البائع ينهره قائلا : "لا حق لك عندي ، انت جاي تاخد حجك مني ما تروح تاخده من فلان اللي قتل واد عمك".

وعلى هذا النحو تظل مناورات الدفع نحو ما يعتبرونه القصاص وهو انتقام أعمى ، فلعلك تعجب إذا علمت أن جريمة الأخذ بالثأر لا توجه في الغالب للقاتل بل أن الأسرة التي لها ثأر عليها أن تختار أقوى وأعلى شخصية من عائلة الخصم حتى يحترق قلب العائلة عليه وتكون خسارتهم فادحة ، وعلى هذا النحو يدفع الصالحون الناجحون "اللي عليهم العين" كما يقال ، ثمن جريمة لم يقترفها بل ربما ارتكبها أحد أقاربه المنبوذين المحسوبين عن طريق الخطأ لعائلته.
منقووووووووووووووول