تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن مما ( لا يختلف [ فيه ] المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنه معرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة ) ( 1 ) .
______
( 1 ) كتاب الصلاة وحكم تاركها ( ص 16 ) للعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى .
وقد وردت الآيات القرآنية تترى في تعظيم قدر الصلاة وبيان شديد إثم تاركها أو المتهاون بها :
قال تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب } [ مريم : 59 - 60 ]
وقال سبحانه : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون } [ الماعون : 4 - 7 ]
وقال جل شأنه : { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين } [ المدثر : 42 - 43 ]
. . . إلى غير ذلك من آيات كريمات تقرع الآذان وتصك الأسماع .
وقد جاءت أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيها عن عظيم الذنب الذي يتلبس به تارك الصلاة أو المتهاون بها أو المتخاذل عنها :
فقال صلى الله عليه وسلم : ( بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ) ( 1 )
وقال صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ( 2 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ) ( 3 ) .
قلت : وإزاء هذه النصوص القرآنية والنبوية : اختلف الأئمة والعلماء في تكفير متعمد ترك الصلاة :
قال الإمام البغوي في " شرح السنة " ( 2 / 178 179 ) :
" اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمدا . . "
______
( 1 ) رواه مسلم ( 82 ) عن جابر .
( 2 ) رواه أحمد ( 5 / 346 ) والترمذي ( 2623 ) وابن ماجة ( 1079 ) وغيرهم عن بريدة .
وقال شيخنا في تعليقه على ( كتاب الإيمان ) ( ص 15 ) لابن أبي شيبة : ( إسناده صحيح على شرط مسلم ) .
( 3 ) رواه ابن ماجة ( 4034 ) والبخاري في " الأدب المفرد " ( رقم : 18 ) وغيرهما .
وفي إسناده ضعف لكن له شواهد تقويه فانظر : ( التلخيص الحبير ) ( 2/148 ) للحافظ ابن حجر و( إراواء الغليل ) ( 7/89 - 91 ) لشيخنا الألباني .
ثم ذكر طائفة من أسماء المختلفين في ذلك .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1 / 369 ) تعليقا على حديث جابر المتقدم إيراده :
" الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة .
وإن كان تركه لها تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها - كما هو حال كثير من الناس ( 1 ) - فقد اختلف الناس في ذلك " .
ثم نقل - بعد ذلك نبذا من الخلاف - مشهور قول " الجماهير من السلف والخلف - منهم مالك والشافعي - إلى أنه لا يكفر بل يفسق فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن . . . إلخ " .
وقال ابن حبان في " صحيحه " ( 4 / 324 ) :
" أطلق المصطفى صلى الله عليه وسلم اسم الكفر على تارك الصلاة إذ ترك الصلاة أول بداية الكفر لأن المرء إذا ترك الصلاة واعتاده : ارتقى منه إلى ترك غيرها من الفرائض وإذا
______
( 1 ) هذا في عصره فكيف اليوم .
اعتاد ترك الفرائض : أداه ذلك إلى الجحد فأطلق صلى الله عليه وسلم اسم النهاية التي هي آخر شعب الكفر على البداية التي هي أول شعبها وهي ترك الصلاة " .
ثم قال رحمه الله مبوبا : " ذكر خبر يدل على صحة ما ذكرنا : أن العرب تطلق اسم المتوقع من الشيء في النهاية على البداية " وبعد إيراده قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المراء في القرآن كفر " ( 1 ) قال :
" إذا مارى المرء في القرآن أداه ذلك - إن لم يعصمه الله - إلى أن يرتاب في الآي المتشابه منه فأطلق صلى الله عليه وسلم اسم الكفر - الذي هو الجحد - على بداية سببه الذي هو المراء " .
فترك الصلاة شأن كبير وأمر خطير يودي - عياذا بالله - إلى الردة عن الدين واللحوق بالكفار والمشركين .
وإذ اختلف العلماء والأئمة في هذه المسألة المهمة : كان الواجب على طلاب العلم التأني والتوقي لا أن يعالجوا كل تارك
______
( 1 ) رواه أبو داود ( 4603 ) وأحمد ( 2 / 528 ) وابن أبي شيبة ( 10 / 52 ) والحاكم ( 2/223 ) وغيرهم بسند حسن .
وانظر ( مشكاة المصابيح ) ( 336 ) و( صحيح الترغيب ) ( 139 ) كلاهما بتحقيق شيخنا الألباني .
للصلاة بالوصم بالتكفير والردة بكل غلاظة وشدة إذ ( 1 ) الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة ( 2 ) أن : " من قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما " . . . وفي لفظ في " الصحيح " : " . . . فقد كفر أحدهما " .
ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير .
وقد قال الله عز وجل : { ولكن من شرح بالكفر صدرا } [ النحل : 106 ] فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه " ( 3 ) .
نعم قد تدفع الغيرة والعاطفة بعض أهل العلم أو طلابه إلى الحكم بتكفير كل تارك للصلاة دون اعتبار لجحود أو كسل
______
( 1 ) من هنا اقتباس من كلام الإمام العلامة الشوكاني في " السيل الجرار " ( 4/578 ) .
( 2 ) رواه البخاري ( 10 / 428 ) ومسلم ( 60 ) عن ابن عمر . وفي الباب عن أبي ذر عند البخاري ( 10/388 ) .
( 3 ) إلى هنا النقل عن الإمام الشوكاني .
حرصا - في ظنهم - على الترهيب الشديد من هذا العمل الجلل ورغبة - كما توهموا - في درء أي تساهل في الصلاة وحكمها ( قد ) يؤدي إلى التسيب في هذا الركن الإسلامي العظيم
وقد يستدل ( بعض ) من هؤلاء العلماء أو الطلاب على ذلك بشيء من الأدلة القرآنية أو النبوية التي سبقت أو غيرها لكن دون جمع بين الدلائل الواردة في هذه المسألة سلبا أو إيجابا - حينا - أو بتقصير في هذه الجمع - أحيانا -
ولست في هذه المقدمة - فضلا عما سيأتي في رسالة شيخنا - بمستوعب القول في دلائل المختلفين في هذه المسألة العظيمة وتحقيق مدارك الخلاف والنظر فيها فإن لهذا موضعا آخر ( 1 ) ولكني أكتفي هنا بذكر تنبيهات علمية مهمة قد تغيب عن عدد من طلاب العلم فأقول :
أولا : قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل في وصيته لتلميذه الإمام الحافظ مسدد بن مسرهد ( 2 ) :
" . . . ولا يخرج الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله
______
( 1 ) انظر ما سيأتي ( ص 64 ) .
( 2 ) كما في " طبقات الحنابلة " ( 1 / 343 ) وغير .
واللة الموفق ليمة يحبة ويرضاة