ثلثا فقراء مصر في الصعيد.. لكنهم يعادون التسول القاهرة : محمد فتحي يونس
في إحدى الضواحي الجديدة بمدينة المنصورة شمال مصر يبدأ محمود خلف 37 عاما الذي ينتمي إلى قرية عرب الشنابلة التابعة لمحافظة أسيوط بصعيد مصر يومه الشاق في السادسة صباحا بالجلوس في ما يسمى بمنطقة «التوضيب» وهي المكان المخصص لوقوف العمالة انتظارا لعروض العمل اليومية في المعمار أو تنسيق الحدائق أو نقل الأثاث. إذ يأتي صاحب العمل ويتفاوض على سعر اليومية ثم يذهب محمود برفقته إذا وافق على منحـــه 50 جنيهـــا نظـــير 10 ساعات من «الأشـــغال الشاقة».. هــكذا سمى خلف ســـاعات العمـــل رابطا بينها وبين العقوبة القضائية الملغاة.ولم يكن كره خلف للعمل الشاق سببا في إطلاقه هذه التسمية عليه، فبحسب تعبيره «الإيد البطالة نجسة ولكن الغربة صعبة وقاسية».خلف يعود الى سكنه وهو غالبا كراج في أسفل إحدى العمارات تحت الإنشاء يشترك معه فيه 20 فردا على الأقل، يدفع نظير ذلك 30 جنيها شهريا، ينام على الأرض ليلا مفترشا نوعا رخيصا من الحصير، ويقضي حاجته في أحد المساجد القريبة من سكنه. ويشترك مع زملائه في وجبة العشاء ويتناول وجبـــتي الإفطار والغداء في العمل على نفقته الخاصة. بحسبة بسيطة يتكلف طعامه يوميا ما بين 12 إلى 15 جنيها، يحرص أن تظل عند حدها الأدنى لأن هناك أياما يعود من «التوضيب» دون أن يوفق في العثور على عمل. وتستغرق رحلة خلف الشاقة 50 يوما (يحسبها بالدقيقة) هكذا استطرد معي مازجا السخرية بالألم مضيفا: «أنا متزوج منذ عامين فقط، ومثل أي أب أريد الاطمئنان على وليدي وزوجتي، وفي الوقت نفسه لا أستطيع العودة دون أن أؤمن قوت يومهم وما يكفيهم حتى أعود مرة أخرى».غضب خلف بشدة عندما ذكرته بما يشاع عن قسوة قلب الصعايدة وتركهم عائلاتهم لشهور، فرد قائلا «أمال إحنا متبهدلين في خلق الله عشان مين»، وشدد أنه يعود إلى أهله بعد الخمسين يوما مهما كانت حصيلته من المال، مؤكدا «محدش بيحب يبعد عن أهله وحبايبــه، بس الفقــر لاحس على الحديد (مثل إطار السيارة عندما يفرغ من الهواء)، وما ينفعش أقعد في بلدنا أستنى حسنة».المقطع السابق من كلام محمود خلف تقاطع نسبيا مع دراسة صدرت أخيرا للدكتور حامد زهران أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس أكدت نتائجها أن الصعيد أقل مناطق مصر احتضانا لظاهرة التسول رغم انها الاكثر في مصر، بينما احتلت محافظات الوجه البحري وخاصة القاهرة والإسكندرية والجيزة والشرقية صدارة الأماكن المتخمة بالمتسولين في مصر.وجاءت دراسة زهران لتضع علامة استفهام كبيرة أمام أي راصد مدقق لأحوال الصعيد، فأرقام تقرير التنمية البشرية لعام 2008 أوضحت أن الفقر يستوطن الصعيد بشكل أساسي، فتوجد 762 قرية في محافظات المنيا وسوهاج وأسيوط من بين أفقر 1000 قرية في مصر، وتوجد 59 قرية منها في محافظة سوهاج وحدها.وهناك دراسات أخرى تؤكد أن كل 10 فقراء في مصر بينهم 7 ينتمون إلى الوجه القبلي ويعيش فيه نحو 66% من الفقراء.«التسول شقيق الفقر ورفيقه الأثير» مسلمة ثبتت صحتها ربما في العالم ولكن الوضع في صعيد مصر يختلف.يقول زهران، في تفسيره لنتائج دراسته، إن الصعيد رغم كل ظروفه الصعبة مازال أبناؤه حريصين على قيم التكافل الاجتماعي وحب العمل حتى لو اضطرهم ذلك للهجرة المؤقتة، بالإضافة إلى الحفاظ على تقاليد الصعيد التي ترفع من شأن روابط الدم مهما ابتعدت درجة القرابة.حضن رابطة الدم إذن يشكل ملاذا مهما للصعايدة في الغربة، ولهذا لم يكن غريبا أن يصف محمود خلف رفاقه في سكن المنصورة بقوله «أولاد عمي»، وعندما سخرت من كثرة عددهم أفهمني أنهم أقارب ربما من الدرجة الخامسة أو أكثر، ولكن تقاليد الصعيد تحتم عليهم الوحدة في مواجهة الفقر والغربة.الهجرة التي تقهر الفقر والتســول في الصعيد، لها تقاليدها أيضــا، فلا يصح أن يهاجـــر الأخ الأكـبر ويترك بلدته، كما لا بد أن يختار الأماكن التي يوجد فيها أبناء عمومته، ويساند من يلجأ إليه مهاجرا بكل ما يستطيع حتى يحصل على عمل.خيار الهجرة وترك الأهل والأحباب في الصعيد ليس منبعه الفقر فقط، فبحسب محمود خلف قد يملك الصعيدي أملاكا زراعية وفدادين، ولكن لا يفرط فيها أبدا حتى لو تعرض للجوع، قال خلف «أبيع نفسي وما بيعش أرضي، بيع الأرض فضيحة في الصعيد، ولا يعترف المجتمع هناك ببيعها حتى لو كان المقابل استثمارا أكثر ربحا».رحلة الهجرة، تبدأ مع سن الخامسة عشرة ولا يوقفها إلا الهرم والمرض، رحلة «هدفها البقاء على قيد الحياة أطول فترة ممكنة»، هكذا أنهى خلف حديثه معي وهو يلملم حاجياته استعدادا للعودة، بعد انتهاء «أشغاله الشاقة وقرب الإفراج».لكن سلاح الهجرة لا يطلق رصاصاته على الدوام، فقد يخون أصحابه ويتركهم فريسة سهلة، مثلما حدث مع موجات الترحيل التي مارستها السلطات المصرية للمئات منهم من المدن السياحية على البحر الأحمر في أعقاب هجمات شرم الشيخ منذ عامين.فحتى الخيار الوحيد الذي يحفظ كرامة الصعايدة من العوز قد لا يجدونه أحيانا، وهو ما ولد احتقانا أنتج بعض المطالب مثلما نادت بعض الأصوات بتمثيل الصعايدة في مجلس الوزراء المصري، لان الصعيد ـ على حد قولها ـ تعرض لمظالم كثيرة، سواء في حرمانه من كعكة التنمية لسنوات طويلة، أو معاناة أبنائه من خطر الإرهاب وطرق مكافحته على السواء.لم يستمع أحد وقتها بالطبع لهذا المطلب، ولكن على عادة المصريين خرجت نكته تقول «أول مهام الوزير الصعيدي القادم منع النكت».
منقول للفائدة